وجهكِ الثاني
وجهكِ الثاني قصة قصيرة
لم تكن أصوات المطارق والحديد تكسر سكون الأرض الخالية، بل كانت تنحت في الفراغ ذاكرةً حية. وقف عادل هناك، وفي عينيه بريقٌ حارق، كدمعةٍ تحجّرت قبل أن تسقط. وقف ليس كمهندس يراقب أساسات بناء، بل كراهبٍ يشيد صومعة لقلبه. كان هذا المكان سيكتسب اسم "متحف"، لكنه في جوهره ضريحٌ لحبٍ واحد، وترياقٌ لروحٍ واحدة... روح ليلى.
رحلت كما يرحل آخر ضوء في أمسية شتوية، بهدوء خاطف، تاركةً خلفها فراغًا لا يملؤه سوى الصدى. قرر عادل أن يحارب الفناء بالخلود، أن يبني جدرانًا تحمي ذكرياتهما من غبار النسيان.
لم يكن المتحف مجرد حجارة. بل كان كل حجر فيه، فصلاً من قصة حب لا يقرؤها إلا القلب. كانت النافذة الضخمة التي تواجه الغرب، شرفةً تطل على اللازمان، لأنها أحبت مشاهدة الغيوم وهي ترسم قصصًا عابرة في السماء. والقاعة الصغيرة التي تتدلى في قلبها آلة كمان وحيدة، كانت مسرحًا لألحانها التي هزمت صقيع ليالي الشتاء. أما الحدائق، فقد زرعها بالورد الأبيض فقط، فلطالما همست له: "الورد الأبيض نقيٌّ كقلبي حين أكون معك". كل زاوية كانت ترنيمة، وكل قطعة أثرية كانت صلاة.
"ألا تزال تسمع صوتها؟" كان يسأل نفسه كل ليلة، وهو يتجول وحيدًا بين أروقة المتحف غير المكتمل. "أسمعه في نقر المطر على زجاج نافذتها، في حفيف أوراق الشجر التي لم تعد تراها... ليلى، هل بنيتُ لكِ سجنًا من الذكريات أم ملاذًا من النسيان؟"
في خضم جمعه لأشيائها، كمن يلملم شظايا روحه، عثر على صندوق خشبي قديم. فتحهُ بأصابع مرتعشة، ففاحت منه رائحة عطرها الممزوجة برائحة الورق العتيق. بين كتب ورسائل اصفرّت أطرافها، وجد ظرفًا صغيرًا، أنيقًا، يحمل اسمه بخط يدها الذي يعرفه كما يعرف ملامح وجهه.
"إلى عادل... حبيبي، حين تصلك هذه الكلمات، سأكون قد عبرتُ إلى الضفة الأخرى. أعرف أنك ستبني من ذكرياتنا حصنًا، وأن قلبك سيتحول إلى متحف لا يزوره سواك. لكن أرجوك، لا تجعلني قيدك الأبدي. لا أريد أن أكون أجمل ماضيك، بل أريد أن أكون السبب في أجمل مستقبلك. عِش يا عادل، دع الحب يطرق بابك مرة أخرى، فهذا هو التكريم الوحيد الذي يليق بحبنا."
تزلزلت الأرض تحت قدميه. كانت كلماتها وصيةً أم لعنة جميلة؟ أمرًا بالخيانة أم إذنًا بالوفاء بطريقة مختلفة؟ أمسك بالرسالة، وشعر بأنها تثقل كاهله أكثر من كل حجر في متحفه. "كيف أعيش من جديد، وكل نفسٍ أتنفسه هو لكِ؟ كيف أفتح قلبي لنور آخر، وقد أقسمتُ أن يكون وجهكِ شمسي الوحيدة؟ أهذا وفاءٌ لذكراكِ أم خيانة لحبنا؟"
بعد عامين، فُتح المتحف كجرحٍ مزهر. صار قبلة للزوار؛ منهم من جاءه الفضول، ومنهم من جاءه ألمٌ مشابه، يبحثون في حزن عادل عن عزاء لأحزانهم.
وفي ظهيرة يومٍ ربيعي، دخلت فتاة شابة، كأنها شعاع شمس تسلل إلى كهفٍ معتم. كانت في ملامحها رقة وفي ابتسامتها دفء غريب. تجولت في صمت، تتأمل كل قطعة بعينين تقدّسان الجمال. توقفت طويلًا أمام صورة ليلى، ثم التفتت إليه بهدوء، وقالت بصوتٍ اخترق جدار صمته:
"يا له من حبٍ قادر على هزيمة الزمن... لكنه لم يهزم الحياة فيك، أليس كذلك؟ ما زلت هنا."
كلماتها لم تكن سؤالًا، بل كانت مرآة. منذ ذلك اليوم، صارت زياراتها متكررة، كأنها طقسٌ يومي. كانت تأتي، لا لترى المتحف، بل لترى حارسه. وشيئًا فشيئًا، شعر عادل بذلك الخفقان الخائن، ذلك النبض الذي ظنه قد مات مع ليلى. كان قلبه، المتحف الحجري، قد بدأت تنمو على جدرانه زهرة برية.
كان ممزقًا بين وفائه لليلى، الشبح المقدس الذي يسكنه، وبين وصيتها التي تمنحه حرية لا يجرؤ على استخدامها. والفتاة الجديدة، التي لم تطلب شيئًا، كانت تأخذ كل شيء دون أن تدري.
في إحدى الليالي، جلس في قاعة الكمان، يناجي طيفها: "ليلى، لقد طلبتِ مني أن أعيش، وها هي الحياة تطرق بابي. لكن كيف أفتح لها وأنتِ تقفين خلفه؟ كلما ابتسمتُ لها، شعرتُ بطيفكِ يعاتبني. أأكون خائنًا لو أطعتُ وصيتك؟ أم أكون أنانيًا لو بقيتُ سجين ذكراك؟"
في ليلة مطيرة، كان المطر يهطل في الخارج كما لو كان يغسل جدران المتحف من غبار الزمن. دخلت الفتاة فجأة، تحمل كتابًا قديمًا بين يديها، وشعرها مبلل يلمع تحت الأضواء الخافتة. اقتربت منه وقالت بصوتٍ خفيض:
"عثرتُ على هذا بين مقتنيات ليلى حين كنتُ أساعد في الترتيب... أعتقد أنك لم تره من قبل."
فتح عادل الكتاب المتهالك. على الصفحة الأولى، وجد إهداءً بخط ليلى، لكنه لم يكن موجهًا إليه.
"إلى ابنتي التي قد تقرأ هذه الكلمات يومًا... اعلمي أنني أحببتُ أباكِ كما لم تحب امرأة. وإن شاء القدر ألا أرعاكِ تكبرين، فكوني على يقين أنه سيظل وفيًا لي ولكِ في كل نفس."
توقف الزمن. رفع عينيه ببطء، ونظر إلى الفتاة الواقفة أمامه، التي تشبه ليلى في نظرتها الحالمة، وفي انحناءة شفتيها حين تبتسم. لم تكن مجرد صدفة... كانت القدر نفسه. إنها ابنة ليلى، ابنتهما التي لم يعلم بوجودها قط، والتي تخلت عنها لأسرة أخرى وهي على فراش الموت حتى تضمن لها حياة كريمة.
انهمرت دموعه، لكنها هذه المرة لم تكن دموع حزن، بل دموع إدراكٍ مقدس. لقد أعاد له القدر قطعة من روح ليلى، لا ليحبها كبديلة، بل ليحميها كامتداد. الآن فقط، فهم المعنى الحقيقي لوصيتها: أن يعيش... لا لينساها، بل ليواصل حبه لها من خلال رعايته لابنتهما.
وقف عادل في قلب متحفه، تحيط به أشباح الماضي الجميل، وبجانبه تقف ابنته، التي لم تعد غريبة، بل صارت جسرًا يربط بين الذكرى والأمل.
أدرك أخيرًا أن الحب لا يموت برحيل الأجساد، بل يجد طريقة ليبعث نفسه في أشكال جديدة، أكثر خلودًا وجمالًا.
تعليقات
إرسال تعليق
Merci à vous